تُعتبر عملية نشر الرسوم جزءا من حرية الإعلام وحق تعبير يكفله الدستور والحداثة الأوربية التي لا تراعي المقدسات ولا تفاضل بينها، ويطال النقد لديها كل شيء وهو شامل لكل الأديان. ولكن نشر الرسوم يأتي كذلك في إطار انتعاش الطائفية عالمياً بعناوين عريضة: كصراع الحضارات أو الأديان، أو الثقافات.
وكون الرسوم عملا فرديا ومن ثم نشر صحف متعددة لها، لا يحوّلها إلى عمل قصدي أو تنفيذٍ لمؤامرات معينة أو أن هناك هدفا من ورائها واختبار ردود الفعل. وبالتالي المسألة مسألة حريات وأفراد يعبّرون عن أفكارهم وهواجسهم، وهذا شرط أولي للنقاش ولطرح القضية وهو موجود فيها كأساس.
أما عدم فهم الأخر فهو حقيقة لا ريب فيها، فالجهل بقيمة محمد كنبي عند المسلمين المؤمنين أمر واقع، حيث أن المسلمين لا يزالون يمتلكون حمية بهذا الخصوص، خاصةً وان الوعي العام لا يزال وعياً تقليدياً دينياً، ويضاف عليه تصاعد الإسلام السياسي التكفيري الذي لا يقدم من خلال سلوكياته وتفارقاته عن العصر وسياساته إلا رؤية تشوه الإسلام الشعبي ،التاريخي، وهذه الوضعية تستحق النقد لا نشر الرسوم.
ويمكن الإشارة إلى وجود شرخ بين الغرب والشرق، وهو حقيقي ولكنه عائد إلى الاستشراق الغربي والأصولية الإسلامية أكثر مما هو عائد إلى اختلاف الثقافات فالكلام عن حدودٍ لحرية التعبير لا يُفسر بهذا الاختلاف، بل يفسر في وجه منه بإخفاق مشروع الحداثة العربي(التقليدي، والقومي).
وتعتبر مشكلة الحجاب ـ إحدى المشكلات كثيرة الحضور في أوربا وتركيا ـ مشكلة مفتعلة، فالعلمانية لا ترفض الحريات الشخصية، والحجاب لا يتعدى هذا الإطار وهو موضوع شخصي. ولهذا كان على الغرب وكذلك تركيا العلمانية البحث عن سبب استعادة سلوكيات كهذه لا رفض ارتداء الحجاب، وبالتالي على الغرب البحث عن سبب عدم اندماج الأقليات القومية أو الدينية في تلك المجتمعات، وتتحمل حكومات تلك الدول المسؤولية عن ذلك، وهو ما دفع تلك الأقليات إلى أحضان الإسلام السياسي والجهادي منه أحياناً وتمييز أنفسهم بوصفهم مختلفين ثقافياً ودينياً، فكان تصاعد وجود الحجاب وتسييس الجامع وكانت الاحتجاجات التي اندلعت في أوربا في أحياء فقراء الأقليات.
ويلفت الانتباه نشر الرسوم الدانمركية ثم إعادة نشرها وعدم نشر الرسوم الإيرانية، وإذا كنّا منصفين لا مغالين سنقول إن في المسألة بُعدا أكبر من حرية في التعبير، وأقصد وجود سياسات عنصرية وعرقية تريد شن حرب إيديولوجية ذات طبيعة طائفية أو أصولية دينية بين شعوب الأرض تخفي مصالح إمبريالية.
يتزامن كل ذلك مع إيديولوجية أمريكة وحروب استعمارية باسم"الحرب على الإرهاب" أو"الحرب الصليبية" التي تكاد تطيح بمسيحيي العراق وفلسطين، وربما لبنان ومصر وسوريا، وبالتالي وفي هذا المناخ فإن الأمر يتطلب الدقة في التحليل ولكننا لا نستطيع الجزم بالتزامن السابق، ولكن الترابطات موجودة بين الظواهر.
وفي موضوع الآيات الشيطانية كتب أحد الكتاب الفرنسيين المختصين في الأصولية بأن الموضوع ربما كان خشية الخميني من تصاعد مدّ الإسلام السياسي السنّي خاصة بعد انتصارات الأخير في أفغانستان، وبالتالي أراد خبطة إعلامية كبيرة تظهر الإسلام الشيعي في مركز الصدارة والدفاع عن الدين الإسلامي، سيما وان إيران تطرح نفسها بعد الثورة مركزا للثورة العالمية الإسلامية.
والمفارقة أن صاحب هذه الآيات كان قد نال أعلى الجوائز في إيران الإسلامية بخصوص روايتيه"أطفال منتصف الليل" و"العار". وبالتالي ردود الأفعال بخصوص الرسوم ربما تجد لها تفسير ضمن هكذا سياقات، عدا عن تشجيع الأنظمة المهددة بالتغيير وفق الرؤية الأمريكية بارتفاع منسوب الغضب ورد الفعل لنصرة النبي، دون تجاهل مشاعر المسلمين المؤمنين الحقيقية والرافضة لرسوم كهذه، وهي مشاعر حقيقية مازالت في مرحلة الحسية في فهم الظواهر والتعامل معها.
أما محاولة الدنماركيين تلافي مشكلة الرسوم بتوزيع عدد من المصاحف، فلا أعتقد أنها تحل الأزمة، فالأزمة لها بعد عقائدي وفي مسألة العقائد ليس هناك حوار، بل نقد وقطيعة وإدارة ظهر، وباعتبار رد فعل المسلمين المؤمنين من زاوية العقائد، فإن التهجم على"الرسول" يعتبر تهكّما على العقائد وبالتالي يرسم ويحفر خطوط حمراء بين الغرب والشرق والمسيحيين والمسلمين شديدة الفتنة، والفتنة أشد من القتل.
ولكن ومن زاوية أخرى فإن الذاكرة الإسلامية العقدية لا تراكم، فهي تستقبل، وتضيف طبقات فوق طبقات،لا تفاعل فيها. ونتيجة ذلك لن يتم تجاوز الموضوع وسيعود الغضب ورد الفعل مجدداً، وقد لا يكون ذلك كما كان أول مرة، وهذا ربما بسبب غياب التوظيف السياسي.
ومسألة عقد مؤتمرات عن العلمانية وحوار الأديان كأسلوب لتجاوز المشكلة لا تعني شيئا، ولو لم تكن الرسوم وجدت. لأن تجاوز العقل التقليدي الإسلامي يتم بتجاوز هذه الأساليب، ويتعلق بتغيير واسع يشمل بُنى المجتمع من كل جوانبه، وخاصة في حوار الأديان، حيث لا يتم الحوار في العقائد لكن فقط في القضايا الاجتماعية والأخلاقية والوطنية. أما تخافت ردود الفعل وبهوتها فلا يعني أبداً تحوّلا في مشاعر المسلمين المؤمنين نحو رؤية حداثية تتضمن الحق في التعبير كالرسوم مثلاً، لأنني كما أشرت مازال هناك جانب عقائدي لم يحلّ، وحسية في الإيمان لا تزال مسيطرة. وخاصة بعد غياب العقل النقدي الإسلامي منذ أزمنة طويلة.
وأشير هنا إلى أن قضايا الإيمان والتدين والحجاب والكفر وعدم التدين والسفور أمور شخصية وستبقى كذلك. وربما يعتبر النظام العلماني والعلمانية كفكرة هي التي تنصف هذه الحقوق. وبالتالي تحافظ على حقوق المواطنين المختلفين عقائدياً وغير المختلفين عقائدياً وغير المؤمنين بالعقائد من أصلها. والحل كما أراه لا يكون بإعادة نشر الرسوم بل بتغيير عميق يشمل بُنى المجتمع العربي الإسلامي والإسلامي وإنصاف حقوق المسلمين بتحرير أراضيهم والتخلص من الاستعمار في فلسطين والعراق.
وغير ذلك، هو عملية تجاهل لحقيقة عميقة، كما هو الحال حين تقدم الديمقراطية باعتبارها هي الحل في بلادنا، فيصل الإسلاميون إلى السلطة وبوصولهم يتم القضاء على الديمقراطية. وإذ كان نشر الرسوم مجدداً فيه شيء من حق التعبير فإن فيه كثيرا من الطائفية المتصاعدة عالمياً والسياسة القَصدية، ويتجاوز حق الحرية في التعبير، وهو ما سيكرر ردود الفعل.
ومُفيد أن نذكرهنا ، بأن كتاب "الإسلام وأصول الحكم" أثار ما أثار على علي عبد الرازق وكتاب "نقد الفكر الديني" لصادق جلال العظم قاده إلى المحاكمة، كما أن نصر حامد أبو زيد طلٌق من زوجته واضطر إلى الهجرة فلحقته زوجته. ولا تزال موجة التكفير حامية الوطيس في ربوعنا الخضراء.
وهذه الرسوم أثارت ما أثارت، وبالتالي فإن استسهال الحل من زاوية كثرة النشر لرسوم كهذه بكونها تروض مشاعر المؤمنين. أقول إنه رأي خاطئ، فالذي يحوّل أفعالهم إلى أفعال فكرية وثقافية هو التغيير العميق لواقعهم. وبدون ذلك ستتعمق الطائفية والأصولية وصدام الحضارات. وإذ بقيّ الأمريكان مصرّين على حروبهم الملتبسة فإن المسألة ستزداد تعقيداً لا حلحلةً.