ستون عاماً على النكبة بوصلة حق العودة
علي الخليلي
رغم أن الجيل الفلسطيني الذي عاش النكبة في العام 1948، يكاد يختفي كله الآن بحكم الـموت الطبيعي، بعد أن قضى ستين عاما من عمره في الحنين الجارف إلى العودة، دون أن تتحقق في زمنه، أو حتى دون أن تلوح لوجدانه الغاضب وذاكرته الـمثقلة بالـمذابح والـمآسي.
أدنى مؤشرات لإمكانات حدوثها، إلا أن الأجيال التي تلته، بمن فيها من وُلد في مخيمات اللجوء أو التشرد على امتداد العالـم، ومن بقي أهله وذووه في الداخل، أو كانوا أصلا في الضفة الغربية وقطاع غزة، على حد سواء، تحقق حضورا صلبا ومتماسكا بأشد الإصرار على حق العودة، وقد ورثت عنه كل تفاصيل الوطن الـمغتصب الذي أجبره الغاصبون أنفسهم على أن يحمل اسمهم الاحتلالي ــ الإحلالي إسرائيل، وهو بالنسبة لهذه الأجيال على اختلاف مستوياتها الثقافية، وتباين رؤاها في الـمقاومة وفي الحل والتسوية وفي الدولة الـمنشودة.
لا يزال على حاله الـموروث، فلسطين ذاتها من البحر إلى النهر، لـم يتغير أبدا، حتى وإن غيرت إسرائيل أسماء الـمكان كله، وهدمت ونسفت وسوت بالأرض أكثر من أربعمائة وخمسين قرية، لتبني فوق أنقاضها مستوطناتها الـمدججة بالسلاح والكراهية وذهنية الغيتو العنصرية، وفق أسطورتها في النفي والإلغاء للوطن العربي الفلسطيني، من أصغر خربة فيه إلى كل الـمدن والقرى، ومن أبسط حكاية شعبية فولكلورية متجذرة في تراث أرضه إلى التاريخ كله.
مع ذلك، قد تطغى صورة الوضع الراهن، بعتمتها واضطرابها وتمزقها بين اتجاه وآخر، على هذه الأجيال ذاتها، فتبدو وكأنها في تمام هذه العقود الستة الصعبة والـمعقدة، قد فقدت البوصلة التي تكونت وتكرست في النكبة. فهي غارقة في محصلة سلسلة طويلة من التناقضات العربية والإقليمية والدولية. إلى جانب تناقضاتها الـمحلية والداخلية.
وهي ما تكاد تخرج من حصار حتى تدخل في حصار جديد. والأنكى بالنسبة لها، أن قضيتها الفلسطينية التي شكلت عبر النكبة، قضية مركزية تعلو فوق جميع القضايا، ووجدانا جماعيا للأمة العربية كلها، قد تراجعت في هذا التمام الستيني التعيس، إلى أسفل سلّم هذه القضايا، وإلى الظلال الخلفية لهذا الوجدان، أو كأنما هذا الوجدان نفسه، لـم يعد موجودا في سياق ما صار وما يصير إلى حينه، من احتلالات جديدة لـمزيد من الأراضي العربية، ومن اتفاقات مع إسرائيل، وتطبيع عربي معها، بالظاهر وبالباطن سيان.
ولكن الواقع أن البوصلة موجودة. وعلى وجه الخصوص ما تعنيه من حق العودة. فالنكبة لا تزال حية في الشعب الفلسطيني، لا تموت في وعيه الـمتوارث جيلا بعد جيل، طالـما لـم ينفذ هذا الحق على الأرض. قد ترتخي قليلا تحت هذا الظرف أو ذاك.
وقد تترنح ذكراها في التجاذبات السياسية وتنافراتها. وقد توحي لـمن يرغب بالتسوية السريعة، أنها لـم تعد قادرة على التأثير. إلا أن بوصلة حق العودة تبقى هادرة ويقظة في تحديد الـمسافة ما بين العمل السياسي الذي يتطلب الـمناورة (التكتيك) من جهة، والعمل السياسي الذي ينزع إلى الهدر والتفريط بالقضية في محتواها الاستراتيجي، من جهة ثانية.
ولأن الفصائل الفلسطينية كلها دون استثناء، لـم تمس حق العودة في كل اختلافاتها تجاه هذا البرنامج أو سواه في جحيم الـمرحلة الحالية، فإن النكبة هي في هذا الـمعنى بالذات، من يوحد هذه الفصائل، ويرتفع بها فوق الاختلافات أو الخلافات، في إطار حق العودة الـمتوافق عليه من قبلها جميعا.
ولأن الدول العربية أيضا، لـم تجرؤ حتى من قام منها بالاتفاق وبالتطبيع مع إسرائيل، على الـمس من جانبها بهذا الحق، فإن النكبة بالـمعنى القومي العربي في هذه الحال، باقية ومستمرة.
ولأن الشرعية الدولية التي أقرت هذا الحق أصلا، فور وقوع النكبة بقرار هيئة الأمم الـمتحدة رقم 194 في 11 كانون الأول 1948، تواصل ثباتها على هذا القرار عاما بعد عام، دون أقل خدش أو طمس له، فإن النكبة باقية في ضمير هذه الشرعية، رغم أنف العولـمة الأميركية التي تحاول في هذا العصر، خدش وطمس، بل تدمير كل شرعية لا تلتقي مع تماهيها مع إسرائيل، ومع الحروب العدوانية في أي مكان.
عن صحيفة الايام الفلسطينية
8/5/2008