[color=blue][size=18][center]قصائد قتلت أصحابها
وأما الشعر فإنه يجوِّد البخيل، ويشجع الجبان، ويسكت الغضبان.. وأضرب على ذلك أمثلة سريعة لأدخل في الموضوع:
ابن الأطنابة أمير من أمراء الجاهلية في الحجاز ، كان في الطائف ، حضر مع قومه والتقى بقبيلة أخرى يقاتلها، ولكنه لما رأى أشعة السيوف -أعاذكم الله من أشعة السيوف- خفق قلبُه وأصابته الحمى، ففر على بغلته وترك جيشه، فلما ذهب بعيداً تذكر أنه لا بد أن تكون له منزلة في التاريخ، وأن ديوان الإنسانية سوف يذكره بهذا، فقال:
أبت لي عفتي وأبى حيائي وأخذي الحمد بالثمن الربيحِ
وإكراهي على المعروف نفسي وضربي هامة البطل المشيحِ
وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تُحمَدي أو تستريحي
فعاد وقاتل وانتصر، وسجل برائعته انتصاراً في التاريخ بسبب ثلاثة أبيات.
وهذا قطري بن الفجاءة حينما حضر المعركة، والخوارج لا تسل عنهم في الشجاعة، فهم بائعو رءوسهم، والخارجي يقاتل بلا رأس ثلاثة أيام، وهذه من الإسرائيليات المنسوبة لبعض الأدباء المعاصرين، فحضر قطري وهو زعيم، فلما رأى السيوف تصرع، ورأى الجماجم تُحط من على الأكتاف فر، ثم رجع إلى المعترك وقال:
أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحكٍ لن تراعي
فإنكِ لو سألتِ بقاء يوم على الأجل الذي لك لن تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاعِ
إلى آخر ما قال، وهي مقطوعة ذهبية جميلة فائقة رائعة، لا يمكن أن يُنْسَج على مثلها إلا أن يشاء الله.
النابغة الذبياني ويمينه البارة
ك سار الناس، فمنهم من سكَّت الغضبان كما فعل النابغة الذبياني لما أتى النعمان بن المنذر .
والحقيقة أن الشعراء دينهم رقيق إلا من رحم الله، حتى يقول ابن كثير : على مذهب الشعراء في رقة الدين، وأستثني الحضور من أهل العلم والشعر والأدب؛ لأن هؤلاء سيوف إسلامية في الأدب والشعر؛ لكن في الجملة: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] فدينهم رهيف خفيف سخيف، إلا أن يشاء الله.
فأخذ النابغة يعرِّض بغرفة النوم عند النعمان بن المنذر .. وانظر إلى العقل، من يلاعب الأسد؟!
احذر السلطان واحذر بطشه لا تعاند مَن إذا قال فعلْ
فأهدر النعمان بن المنذر دمه، ففر النابغة على وجهه، كلما أتى قبيلة وقال: أنا ضيفكم أستجيركم قالوا: إن كنت أنت النابغة فلا تدخل بيتنا، وكان ينام في النهار ويمشي في الليل، وفي الأخير أشار عليه أحد الحكماء أن يلبس أكفانه وأن يسلم نفسه إلى أقرب مخفر شرطة ليموت ميتة طبيعية.. فسلم نفسه، وذُهب به إلى النعمان بن المنذر ؛ لكنه جهز ثلاث قصائد؛ لأن النفس -كما يقال- إذا كانت تغلي، فإنها تسخن في حنفيات حتى تصل إلى مصبها.
وكان النابغة قد مدح أعداء النعمان الغساسنة بقصيدة رائعة قال في أولها:
كِلِيْني لِهَمٍ يا أميمة ناصب وليلٍِ أقاسيه بطيء الكواكبِ
تطاول حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ
وصدرٍِ أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانبِ
انظر إلى السحر الحلال! وليس كقصيدة:
نحن أبناء الجزيرة المثنى والمغيرة
التي كأنها درجات الحرارة، والصيدليات المناوبة.
نريد شعراً قوياً عارماً هائلاً مؤثراً في الناس، وإلا فلنرح أنفسنا والقراء من الإكثار من كتابة القصائد بمعدل أربعٍ وعشرين قصيدة في كل ثلاث وعشرين ساعة.
فهدر دمه، فلما جاء إليه النابغة قال له:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهبُ
لئن كنت قد بلغت عني وشاية لمبلغك الواشي أغش وأكذب
فإنك شمس والملوك كواكبٌ إذا طَلَعَتْ لم يبدُ منهن كوكبُ
فرضي، ثم قال له أيضاً:
فبتُّ كأني ساورتني ضيئلةٌ من الرُكس في أنيابه السُّمُّ ناقعُ
إلى آخر ما قال، وحلف له أيماناً الله أعلم بها.
وكان لنا شيخ في معهد الرياض العلمي، وهو ابن منيف طيب الله ذكره، وهو لا يزال حياً، ولو كان ميتاً لترحمنا عليه، والمقصود أنني حلفتُ أني أستحق درجة أعلى من الدرجة التي أعطاني، وأنا في ثانية متوسط -وهذا من الاستطراد- فقال: أيمين امرئ القيس أم يمين النابغة ؟ قلت: لا أدري، قال: إن دريتَ كمَّلتُ لك الدرجة؛ لكنني لا أعرف القصة، فقال هو: إن امرأ القيس فاجر في يمينه، حيث يقول:
حلفتُ لها بالله حلفة فاجرٍ لناموا فما أن من حديث ومِن صالِ
وأما النابغة فيمينه بارة، حيث يقول:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً وليس وراء الله للمرء مذهبُ
المتنبي وهجاؤه ضبَّة
وصاحبنا الثاني: أبو الطيب المتنبي ، ولعلكم سمعتم به، وهو خطير جد خطير، فهو في الشعراء مثل أحمد بن تيمية في العلماء، وإذا جاء المتنبي انتهى الشعر والشعراء إليه، وقد استمر في الإحسان وفي الإهداء، حتى إن الشوكاني يقول في البدر الطالع : يكفيه فخراً وشرفاً أن له خمسمائة بيت تدور على ألسنة الملوك فقط، من غير رعاة الأبقار والأغنام.. فهو شاعر الدنيا، وديوانه قدر خمسمائة صفحة، له ما يقارب خمسة آلاف وستمائة بيت، أو ستة آلاف، وقد سرى بها في الدنيا.. وبعض المعاصرين لهم أربعة دواوين، كل ديوان مثل كيس الأسمنت، ولا يحفظ الناس منها بيتاً واحداً.. فهذا المتنبي ، ويكفيه أنني عقدتُ له مناظرة، والمرجع: مقامات القرني
قلتُ: من أنت؟
قال:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسْمَعَتْ كلماتي من به صممُ
وتوقيعاته معروفة دائماً.
قلتُ له: ما رأيك في حُسَّادك؟
قال:
إني وإن لُمْتُ حاسِدِيَّ فما أنكر أني عقوبة لهمُ
اسمع هذا البيت، الْغِ الديوان وخذ منه هذا البيت، يقول: جعلني الله عقوبة لهم، لكن أستغفر الله لهم.
قلت: السفهاء يتطاولون على العظماء.
قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كاملُ
هكذا تفجر طاقة في اللغة والإبداع، مع القلة والنزر اليسير، لكنه الدرر.. وكان خفيف الدين، عهده بالوضوء في عطلة الربيع حين سافر إلى مصر ، يُقال: كان لا يشرب الخمر ولا يصلي، قلنا: وددنا لو أنه شرب الخمر وصلى.
وأوصي إخواننا أن يحفظوا ألسنتهم شعراً ونثراً وكتابةً من أعراض المسلمين، فإنهم إن لم يخافوا العقوبة في الدنيا والسلطة؛ فإن الواحد الأحد سوف يبرز للبشر على عرشه سبحانه وتعالى، ويحاسبهم بما اقترفت أيمانهم وأيديهم وألسنتهم، ووالله لن يغادروا الموقف حتى يقتص سبحانه وتعالى لعباده بعضهم من بعض.
فأتى -والعياذ بالله- وتعرض لرجل أغضبه اسمه ضبة ، وقال في قصيدة له شنيعة لا أذكر منها الإسفاف -نعوذ بالله- فسأترك الفُحش الذي في ديوانه، ففي ديوانه فُحش ومقت وسُخط؛ وهذا لأنه ليس عنده تقوى ولا دين.. قال:
ما أنصف القومُ ضبة وأمَّه الطُّرْطُبَّة
فلا بمن مات فخراً ولا بمن عاش رغبة
وإنما قلتُ ما قلتُ رحمةً لا محبة
وحيلة لك حتى عذرت لو كنت تأبه
ومن يبالي بذم إذا تعوَّد كسبه
إلى هنا وأقف؛ لأنه دخل في أمور أستحي من ذكرها، وهي من أسوأ قصائده -كما يقول محمود شاكر ، وغيره من الأدباء والنقاد- ومع ذلك كانت سبب حتفه، فرصد له ضبة وقوم من بني أسد وتعرضوا له، وفي الطريق رده أحد الأدباء وقال له: احذر، اتقِ الناس، إنك هجوت هؤلاء القوم وسوف يعترضون لك، فقال بكِبْر وعُجْب وتيه:
والله لو أن بني أسد ظمأى لخمس، ونهر الفرات يترقرق ويتقلب ماؤه كبطون الحيات -البلاغة عنده حتى ورأسه سيذهب!- ومخصرتي -أي: عصاي- على النهر، ثم رأوا الماء ما وردوه.
وهذه كذبة تصنَّعها، كذبة إبليس، فقالوا له: خذ حرساً، قال: أمِنْهُم؟! والله لو خيالي سارٍ لغلبهم، قالوا: هذا صِدْقٌ! فذهب في الصحراء، وإذا بهم بعد قليل يطوقون المكان بمن فيه، فقالوا له: ارفع يديك، فأراد أن يهرب؛ لأن حوله ما يقارب الستين، وأراد أن ينسحب، ومعه ابنه محسد ومولاه وقوم من مرافقيه، فانسحب وهرب، فصاح به مولاه -وقيل ابنه والصحيح أنه مولاه: ألستَ القائل:
الخيل والليل والبيداءُ تعرفني والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ
فقال: قتلتني قتلك الله! ثم رجع بالسيف، فقتلوه، فكأنه خُلق بدون رأس، وذهب رأسُه مِن أجل:
ما أنصف القومُ ضبة وأمَّه الطُّرطُبَّة
فانظر إلى هذه الخطورة وهذا الإعراض......
هجاء طرفة لعمرو بن هند
أما طرفة بن العبد ، وحسبك به! العبقري الثائر المتمرد، الذي قُتل وعمره ست وعشرون سنة، والعبقرية لا تعرف عُمْراً.. ست وعشرون سنة يدخل فيها على الملوك ويسجل أروع القصائد، حتى إن بعضهم يجعل معلقته بعد معلقة امرئ القيس مباشرة، وبعضهم ألَّف فيها تصنيفاً بديعاً، وهي من أخطر وأبلغ وأمهر المعلقات على الإطلاق، ومع ذلك قُتِل وعمره ست وعشرون سنة.. وانظر إلى جيلنا الحاضر، يبلغ أحدهم ثلاثين سنة ولا يستطيع أن يشتري أغراضه من السوق.. وهذا هو صاحب الدالِية التي يقول فيها:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهندِ
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشددِ
إلى أن يقول:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تسطِيع دفع مَنِيَّتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي
يقول: ما دمت سأموت فاسقوني الخمر، وأعطوني الشهوات، واجعلوا البيع بالجملة؛ لأنه ما عنده آخرة، وقد كان قبل الرسول صلى الله عليه وسلم في عهد الجاهلية، وليس عند الجاهليين نور، بل كانوا كالبهائم؛ لأنه قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كنا بلا عقول ولا طهارة، ولا زكاة، ولا تفكير، ولا أدب، حتى بُعث محمد صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].
وقد ذكرت بعضُ أبياته عند الخليفة الراشد الزاهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه في مجلس الأدب، فقيل له: يقول طرفة :
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدكَ لم أحْفَلْ متى قام عُوَّدي
يقسم أنه لولا ثلاث لم يهتم بالحياة، وإنما يريد أن يموت، ويريد أن يقوم عليه النُّعاة.
قال عمر : وما هي؟
قيل له، يقول:
فمنهن سبق العاذلات بشربة كُميْتٍ متى ما تعل بالماء تزبدِ
أي: كأس الخمر.
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الخباء الممددِ
أي: امرأة.
وكري إذا نادى المضاف مجنباً كليث الغضا نبهتَه المتورِّدِ
فدمعت عينا عمر ، وقال: والله لولا ثلاث لـم أحْفَل متى قام عُوَّدي، وهو منطق أهل الإسلام والإيمان والرشد: مزاحمة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنْتَقى أطايب الثمر، وأن أصوم يوماً حاراً بعيداً طرفاه، وأن أمرِّغ وجهي لربي في التراب ساجداً.
فجزاه الله خيراً، فإن هذا منطق أهل الاصطلاح الخيِّر، لا منطق الجاهلية العفن.
أما طرفة فما أصابه بأس بهذه القصيدة المعلقة التي تركها لنا، وهي من أجود القصائد.
أتى إلى عمرو بن هند ، وهو الذي يخاف منه الطير في الدهناء ، وأتى يتعرض له ويستهزئ بمجلسه ويقول:
فليت لنا مكان الملك عمرو رغوثاً حول قبتنا تخورُ
يقول: بودي لو أن بدل عمرو بن هند بقرة! أهذا منطق؟!
من الزمرات أسبل قادماها وضرتها مركنة دَرورُ
أي: تكون حلوباً، يقول: والله لا استفدنا منه ولا أعطانا شيئاً.
يشاركنا لنا رخلان فيها وتعلوها الكباش فما تنور
لعمرك إن قابوس بن هند ليخلط ملكه نوك كثيرُ
فطارت القصيدة بحفظ الله ورعايته إلى عمرو بن هند ، وهو الذي قتل ملوكاً، ولا يُمْزَح معه، فقال: عليَّ به، فأتى، وأراد عمرو أن يظهر في موطن الصيانة والرزانة؛ لئلا يقول الناس: إنه قتل طرفة الشاب العبقري المارد، الذكي الألمعي، إذ كيف له أن يقتله؟! فدعاه وحياه ورحب به وغدَّاه وألبسه، وقال: لك عندي رسالة فاذهب بها إلى ملك البحرين ، وأعطاه الرسالة، وأعطى المتلمس رسالة أخرى، ووضعهما في ظرفين وأعطاهما، فأما المتلمس فقد شك -فربما كان الذيب في القريب، كما قال بعض السلف ، أو الصميل في الكيس، كما قال بعضهم- ففتح الرسالة وإذا فيها: إذا أتاك المتلمس فقطِّع أطرافه الأربعة ثم اضرب عنقه، ففر وقال لـطرفة : اذهب، يكفيك هذا الشعر، خذ الرسالة، قال: لا، بل حسدتني -وقد كان قريباً له- والله إن لي جائزة، وتريد أن تأخذها أنت عليَّ.. فذهب بها إلى الملك، فقرأها، فقطَّع أطرافه الأربعة ثم ضرب عنقه، فذهب في خبر كان من أجل أربعة أبيات أو أكثر.. وهي من أسوأ أبياته على الإطلاق، وهي ركيكة، لكن هذه عاقبة اللسان الذي لا يحفظه العبد، وهذا مع البشر فكيف مع الواحد الديان جلَّ في علاه......
الأعشى والحجاج بن يوسف
والشاعر الآخر مسلم اسمه: الأعشى الهمداني .. قتله أدبه وشعره، وكان شاعراً مجيداً.. لكن خرج مع فتنة ابن الأشعث التي خرجوا فيها على عبد الملك بن مروان ، ومعهم سبعون عالماً من علماء أهل السنة ، رضي الله عنهم، منهم: سعيد بن جبير الذي ذهب دمه هدراً ورأسه شذراً، ومنهم: عامر الشعبي العالِم الكبير.. حتى أنه ذات مرة دخل الحجاج فقيل له: أين كنتَ؟ قال: كنتُ في مكان كما قال تأبط شراً :
عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى وصوَّت إنسان فكدتُ أطيرُ
وهذا من أجمل الأبيات، وهو من عيون الشعر.. وتأبط شراً ما كان يأخذ الجِمال ويستعيرها من أحد، وما كان يشتريها، بل كان يقول: الله هو الذي خلق الجِمال، وليست من الناس، فيأخذها عُنوة، وقد كان مارداً متجبراً، السيف عنده جاهز يقطر دماً.. يقول أحد الصعاليك: إذا مَرَّ بجِمالي قلت له: خذ ما تريد واذهب.. يقول في مطلع القصيدة، وهي خطيرة وأخَّاذة:
درى الله أني للجليس لشانِئٌ وتبغضهم لي مقلةٌ وضميرُ
يقول: لا تضيِّع وقتَك بالجلوس مع الناس، اذهب واسرق لك جِمالاً وكباشاً، وخذ لك واشبع.
درى الله أني للجليس لشانِئٌ وتبغضهم لي مقلةٌ وضميرُ
ولا أسأل العبد الفقير بعيرَه وبُعْران ربي في البلاد كثيرُ
عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى وصوَّت إنسان فكدتُ أطيرُ
المقصود أن الأعشى الهمداني خرج في هذه الفتنة، فلما خرج نَظَم قصائد فيمن كان أمير الفتنة ضد الحجاج ، وهو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، يقول في بعضها:
يأبى الإله وعزة ابن محمد وجدود ملك قبل آل ثمودِ
أن تأنسوا بمُذَمَّمِين عروقهم في الناس إن نُسِبُوا عروق عبيدِ
يقصد الحجاج ومَن معه. ثم رجع إلى الممدوح، يقول:
كم من أب لك كان يُعْقَد تاجه بجبين أبلج مِقْوَدٍ صنديدِ
إلى أن يقول:
بين الأشج وبين قيس باذِخٌ بَخ بَخ لوالده وللمولودِ
أي: بين أبيك وبين جدك.
فقال الحجاج لما سمعها: والله ما أتركه يبَخْبِخْ بعدها. وهذه الكلمة تُنطق عند أهل اللغة: بَخٍ بَخٍ، وبَخْ بَخْ، والرسول صلى الله عليه وسلم لما تصدَّقَ أحد الصحابة بمزرعته قال: {بخ بخ ربح البيع } وضَبَطها المحدثون: بَخٍِ بَخٍ.
ما قصَّرَت بك أن تنال مدى العلا أخلاق مكرُمة وأجودَ جود
فاستدعاه الحجاج ، فوقف أمامه، وحلف بالله: إنك أحب الناس عندي. يقول هذا للحجاج وهو قد خرج عليه، وقال: إنه أحب الناس لأنه يرى النطع أمامه، والسيف مشهور، والكفن منشور.. قيل لبعض العلماء وهو يرتجف: ما لك ترتجف وقد كنت تشجعنا وتثبتنا؟ قال: ما لي لا أرتجف وأنا أرى قبراً محفوراً، وسيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً!! فحلف بالله إنني أحبك وإني ما خرجتُ رغبة، وإني قد قلت فيك قصيدة. قال: وما هي؟ فقال القصيدة. ثم قال له: أوَنِسْيَتَ قولك:
بين الأشج وبين قيس باذِخٌ بَخ بَخ لوالده وللمولودِ
والله لا تُبَخْبِخُ بعد اليوم، يا غلام ائتني برأسه، فضَرَبَ رأسه، فكأنه لم يُخلق له رأس.
وهذا لأنه لم يقدر الموقف.......
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.